الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **
اعلم: أن الغضب شعلة من النار، وأن الإنسان ينزع فيه عند الغضب عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال: وكان يقال: اتقوا الغضب، فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل، والغضب عدو العقل. و قد عرفت أن علاج كل علة بحسم مادتها وإزالة أسبابها.فمن أسبابه: العجب، والمزاح، والمماراة، والمضادة، والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه الأخلاق رديئة مذمومة شرعاً، فينبغي أن يقابل كل واحد من هذه بما يضاده، فيجتهد على حسم مواد الغضب وقطع أسبابه. وأما إذا هاج الغضب فيعالج بأمور: وأما العمل، فينبغي له السكون، والتعوذ، وتغيير الحال، وإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد أمرنا بالوضوء أيضاَ عند الغضب، فهذه الأمور وردت في الأحاديث.أما الحكمة في الوضوء عند الغضب، فقد بينها في الحديث. كما روى أبو وائل قال: كنا عند عروة بن محمد، فكلمه رجل بكلام، فغضب غضباً شديداً فقام وتوضأ، ثم جاء فقال: حدثني أبى عن جدي عطية- وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقيل: غضب المهدى على رجل، فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال: يا أمير المؤمنين، لا تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه، فقال: خلوا سبيله. قال الله تعالى: روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعلم: أن معنى العفو أن تستحق حقاً فتسقطه، وتؤدى عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم والكظم. وقال الله تعالى: اعلم: أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، فاحتقن فيه فصار حقداً.وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد.وعن الزبير بن العوام رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شئ من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار.وقال إبليس لنوح عليه السلام: إياك والحسد، فإنه صيرني إلى هذه الحال.واعلم: أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان: إحداها: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد. والحالة الثانية: أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة.قال المصنف رحمه الله: قلت: واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لى من كشفه فأقول:اعلم: أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع. وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق. وقد قال الله تعالى: أحدها: العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس،وبخلها، وأشدها: العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نقمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن. وأما الكبر، فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه ولا يطيق تكبره، وأن يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته. وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ذلك . قال الله تعالى: وأما حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به، من أنه أوحد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك وأحب موته، أو زوال النعمة التي بها يشاركه في علم ، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد .وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يؤمنون خوفاً من بطلان رئاستهم.وأما خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، وإذا وصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به، شق عليه ذلك، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. وقد قال بعض العلماء: البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة، وهذا ليس له سبب إلا خبث النفس ورداءة الطبع، وهذا معالجته شديدة، لأنه ليس له سبب عارض، فيعمل على إزالته، بل سببه خبث الجبلة، فيعسر إزالته، فهذه أسباب الحسد. واعلم: أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال، والإخوة، وبنى العم، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها، فيثور التنافر والتباغض.ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، والإسكاف يحسد الإسكاف، ولا يحسد البزاز إلا أن يكون سبب آخر، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر.فأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين، ولا يكون بينهما محاسدة إلا من اشتد حرصه على الجاه، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها.ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، فإن من احب معرفة الله تعالى، وملائكته، وأنبياءه، وملكوت أرضه وسماءه، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفة غيره، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة، لأن مقصودهم معرفة الله سبحانه، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله، ولا ضيق فيما عند الله، لأن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه، وليس فيه ممانعة ولا مزاحمة.ولا يضيق بعض الناظرين على بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم، إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا.والفرق بين العلم والمال، أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن يد أخرى، والعلم مستقر في قلب العلم، ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن قلبه، ولا نهاية له، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكه، وصار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأنه لم يكن ممنوعاً عنه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأن غيره لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته، فقد عرفت أنه لا حسد إلا في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل.ولهذا لا ترى الناس يتزاحمون على النظر إلى زينة السماء، لأنها واسعة الأقطار، وافيه بجميع الأبصار، فعليك إن كنت شفيقاً على نفسك أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى وعجائب ملكوته، ولا ينال ذلك في المعرفة أيضاً، فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله سبحانه، ولم تجد لذتها، وضعفت فيها رغبتك، فلست برجل، إنما هذا شأن الرجال، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقى من المحرومين.واعلم: أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع به، والنعمة لا تزول عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع، فكيف وأنت تعلم ما فيه من العذاب في الآخرة.وبيان قولنا: أن المحسود لا ضرر عليه في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع بحسدك في الدين والدنيا، لأن ما قدره الله من نعمة لا بد أن تدوم إلى اجله الذي قدره، ولا ضرر عليه في الأبخرة، لأنه لا يأثم هو بذلك، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك.لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل وأما منفعته في الدنيا، فهو من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد. فإذا تأملت ما ذكرنا، علمت أنك عدو لنفسك، وهو صديق لعدوك، فما مثلك إلا كمثل من يرمى حجراً عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه، ويرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزيد غضبه، فيعود ويرميه بحجر أشد من الأول، فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه، فيرميه الثالثة، فيعود الحجر على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم يضحكك منه، فهذه الأدوية العلمية، فإذا تفكر الإنسان فيها، أخمدت نار الحسد في قلبه.وأما العمل النافع فيه، فهو أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد والقدح في المحسود، كلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإن حمله الكبر، ألزم نفسه التواضع له، وإن بعثه على كف الأنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام.وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصاً اغتابهم، أهدوا إليه هدية.فهذه أدوية نافعة للحسد جداً، إلا أنها مرة، وربما يسهل شربها أن يعلم أنه إذا كلن لا يكون كل ما تريد، فأرد ما يكون، وهذا هو الدواء الكلى، والله أعلم. الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا، والتزهيد فيها، وضرب الأمثال لها كثيرة كقوله تعالى: وروى أبو موسى، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لإعدائه اغتراراً، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟ ونسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه وما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا.ومن أمثلة الدنيا: قال يونس بن عبيد: شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه. ومثل هذا قولهم: الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.والمعنى انهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شئ مما ركنوا إليه وفرحوا به.قيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء((8) وقال بعضهم: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة الخلقة حدباء. مثال آخر: واعلم أن أحوالك ثلاث: حال لم تكن فيها شيئاً، وهى قبل أن توجد. وحال أخرى، وهى من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك وجوداً بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم. وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهى أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ذلك، وأنسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا.ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة وقال: وقال عيس عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، والحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق. وقيل: مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله. وكان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم. مثال آخر: روى عن الحسن قال: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقاً، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب.وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظناً منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول:اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهى الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الأدنى، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته. ولا وجه أيضاً للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهىً، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها.وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج.وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، فيقول: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال.ولينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس.وينبغى أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون. وذم المال ومدحه ومدح القناعة والسخاء، ونحو ذلك اعلم: أن المال لا يذم لذاته بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى إما شدة حرصه أو تناوله من غير حلة، أو حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، ولهذا قال الله تعالى: قد بينا أن المال لا يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح، لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي. قال الله تعالى في أول سورة النساء: أما فوائده، فتنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية، فالخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها. وأما الدينية، فتنحصر في ثلاثة أنواع: أحدها: أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة، كالحج والجهاد، وإما في الاستعانة على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر، لم يتفرغ القلب للدين والعبادة، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به، فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا. النوع الثاني: ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام أحدها: الصدقة، وفضائلها كثيرة ومشهورة. القسم الثاني: المروءة، ونعنى بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ونحو ذلك، وهذا من الفوائد الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء. القسم الثالث: وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب (13) لقسم الرابع: ما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر والذكر اللذين هما أعلى مقامات السالك، ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه، فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل بذلك غرضك، فإن تشاغلك به غبن، لأن احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد. النوع الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معين، لكن يحصل عليه به خيراً عاماً، كبناء المساجد، والقناطر، والوقوف المؤبدة، فهذه جملة فوائد المال في الدين، سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة، من الإخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والكرامة في القلوب، والوقار وأما غوائل المال وآفاته، فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية: أما الدينية فثلاث فئات الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالباً، لأنه من استشعر القدرة على المعصية، انبعثت داعيته إليها. والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها. ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء. الثانية: أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق، لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال. الثالثة: وهى التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى، والتفكير في جلاله وعظمته، وذلك يستدعى قلباً فارغاً.وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاحين ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج والأجراء على التقصير في العمارة ونحو ذلك.وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضيعه المال.وكذا سائر أصناف المال، حتى صاحب المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفى الخوف عليه.ومن له قوت يوم بيوم فهو في سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف والحزن والهم والغم والتعب.فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات. واعلم: أن الفقر محمود، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريص على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس.وقد روى في "صحيح مسلم" عن عمرو بن العاص رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اعلم: أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر، والعلم، والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد اقناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لابد منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر.قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: الثاني: إذا تيسر له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر.وعن ابن مسعود رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: وإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث: الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل .وليس في القناعة إلا الصبر عن المشتبهات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عزَّ نفسه عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان. الرابع: أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم، ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أراذل العالمين، أو صفوة الخلق عند الله تعالى، حتى يهون عليه الصبر على القليل والقناعة باليسير، وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفاداً (15) الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن ينظر أبداً من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا، ولمن وجده أن يستعمل السخاء والإيثار واصطناع المعروف، فإن السخاء أخلاق الأنبياء، وهو أصل من أصول النجاة.وعن جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: قد صح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأنه ما سئل شيئاً قط فقال: لا وأن رجلاً سأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال: يا قوم: أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر.وقيل: كان لعثمان على طلحة رضى الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة على مروءتك.وجاء أعرابي إلى طلحة، فسأله، وتعرف إليه برحم، فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم.وقال عروة: رأيت عائشة رضى الله عنها تقسم سبعين ألفا، وهى ترقع درعها.وروى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية علىَّ فطوري، فجاءتها بخبز وزيت: فقالت لها أم درة: أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه!؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت.واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد. فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون على دراهم، قال : يا غلام: ائتهم، فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً. وبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وصف لى لبن البقر، فابعث لى بقرة أشرب من لبنها. فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها، وقال: القرية التي كانت ترعى فيها لك. ودخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكى: فقال: ما شأنك؟ قال: على دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار. قال: فهي على.وجاء رجل إلى معن، فسأله، فقال: يا غلام: ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه.وبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له لقاؤه، فقال لبعض خدمه: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، قال: فلما دخل عرفه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة، وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، فلما بصر معن بالخشية، أخذها، فإذا فيها مكتوب: فقال من صاحب هذه؟ فدعا الرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقاله، فأمر له بعشر بدر(16) ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له، إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً، ينادى: من كان عليه لقيس حق، فهو منه في حل، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده. وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى، فقال: سعيد: ما يبكيك؟ قال: أبكى على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى. عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: قال الخطابي: الشح في المنع أبلغ من البخل. وقال سلمان: إذا مات السخي، قالت الأرض والحفظة: رب تجاوز عن عبدك فى الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة، كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا.وقال بعض الحكماء: من كان بخيلاً ورث ماله عدوه.وذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف ويفطرون على الفواحش. روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال: كان الحاجب رجلاً من أجل العرب، وكان بخيلاً، وكان لا يوقد ناراً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها، فإذا احتاج إلى إيقادها فأوقد ثم بصر بمستضيئ بها أطفأها.وقيل: كان مروان بن أبى حفصة من أبخل الناس، فخرج يريد المهدى، فقالت له امرأته: مالي عليك إن رجعت بالجائزة؟قال: إن أعطيت مائة ألف درهم، أعطيتك درهماً، فأعطى ستين ألف درهم. فأعطاها أربعة دوانق.وقيل: كان بعض البخلاء موسراً كثير الأموال، وكان ينظر في دقائق الأشياء فاشترى شيئاً من الحوائج، ودعا حمالاً وقال: بكم تحمل هذه الحوائج؟ قال: بحبة: قال: أبخس. قال ما أقل من حبة؟ لا أدرى ما أقول. قال: نشترى بالحبة جزراً، فنجلس جميعاً فنأكله. اعلم أن السخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.وأشد درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهى الشهوة فيمنعه منها البخل.فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين ما يؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله عز وجل حيث يشاء.وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإيثار، فقال: واستشهد باليرموك عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وجماعة من بنى المغيرة، فأتوا بماءٍ وهم صرعى، فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذقوه.أتى عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، ونظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم.وأهدى إلى الرجل من الصحابة رضى الله عنه رأس شاة، فقال: إن أخي أحوج إليه منى، فبعث به إلى الرجل، فبعث به ذلك إلى آخر، حتى تداولته سبع أبيات، فرجع إلى الأول.خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصاُ فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه ثالث فأكله، وعبد الله ينظر فقال: يا غلام! كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: ماهى بأرض كلاب، جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: ألام على السخاء وهذا أسخى منى، فاشترى الحائط وما فيه من الآلات، واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له.واجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرغفان، وأطفؤوا السراج، وجلسوا للأكل، فلما رفع الطعام، إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لأصحابه. وقد تكلم الناس في حد البخل والسخاء، فذهب قوم إلى أن حد البخل منع الواجب، وأن من أدى ما يجب عليه، فليس ببخيل، وهذا غير كاف، فإن من لم يسلم إلى عياله إلا القدر الذي يفرضه الحاكم، ثم يضايقهم في زيادة لقمة أو ثمرة فإنه معدود من البخلاء، فالصحيح أن البراءة من البخل تحصل بفعل الواجب في الشرع واللازم بطريق المروءة مع طيب القلب بالبذل.فأما الواجب بالشرع، فهو الزكاة، ونفقة العيال.وأما اللازم بطريق المروءة، فهو ترك المضايقة، والاستقصاء عن المحقرات فإن ذلك يستفتح، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل المضايقة لأهله وأقاربه وجيرانه مالا يستقبح من الأجانب، فالبخيل الذي يمنع مالا ينبغي أن يمنع، إما بحكم الشرع أو لازم المروءة. ومن قام بواجب الشرع، ولازم المروءة، فقد تبرأ من البخل، لكن لا يتصف بصفة الجود مالم يبذل زيادة على ذلك.قال بعضهم: الجواد: هو الذي يعطى بلا من. وقيل: هو الذي يفرح بالإعطاء.فأما علاج البخل، فاعلم أن سبب البخل حب المال. ولحب المال سببان: أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل وله ولد، فإنه يقوم مقام طول الأمل. الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره لو اقتصر على ما جرت عادته به، ويفضل معه آلاف، ويكون شيخاً لا ولد له، ثم لا تسمح نفسه بإخراج الواجب عليه، ولا بصدقة تنفعه، ويعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه، أو ضاع إن كان مدفوناً، وهذا مرض لا يرجى علاجه. ومثال ذلك رجل أحب شخصاً، فلما جاء رسوله، أحب الرسول ونسى محبوبه واشتغل بالرسول، فإن الدنيا رسول مبلغ إلى الحاجات، فيحب الدنانير لذاتها، وينسى الحاجات، وهذا غاية الضلال.واعلم: أن علاج كل علة بمضادة سببها.فيعالج حب الشهوات بالقناعة والصبر، وطول الأمل بكثرة ذكر الموت.ويعالج التفات القلب إلى الولد، بأن من خلقه معه رزقه، وكم ممن لم يرث شيئا أحسن حالاً ممن ورث.فليحذر أن يترك لولده الخير، ويقدم على الله بشر، فإن ولده إن كان صالحا فالله يتولاه، وإن فاسقاً فلا يترك ما يستعين به على المعاصي، وليردد على سمعه ما ذكرناه في ذم البخل ومدح السخاء.واعلم: أنه إذا كثرت المحبوبات في الدنيا، كثرت المصائب بفقدها، فمن عرف آفة المال لم يأنس به، ومن لم يأخذ منه إلا قدر حاجته، وأمسك ذلك لحاجته فليس ببخيل، والله أعلم.
|